كنا نقود السيارة في طريقنا إلى مدينة توزر في تونس عندما بدأنا نرى أشجار النخيل تزين أفق الصحراء الواسعة في ضوء الغسق الذي يلون سماء الغروب، عندها أدركنا أننا اقتربنا من الوصول. ولما دخلنا هذه المدينة القديمة أحسسنا أننا ندخلها مثل الكثيرين من قبلنا على مدى القرون الطويلة من الرحالة والمسافرين الذين طالما مروا عليها للاستراحة من سفرهم الطويل بين البحر المتوسط والصحراء الكبرى. فواحات نخيلها الكثيفة توفر الراحة من عناء الرحلة الشاقة في الصحراء الحارقة، كما تقدم طيفا واسعا من منتجات التمور المتنوعة التي لم تر عينك مثلها من قبل.
تشكل مدينة توزر معلما سياحيا مهما في تونس يقصدها السياح للقيام بنشاطات مثيرة مثل ركوب العربات الملونة التي تجرها الخيول والسيارات الرباعية الدفع أو ما تسمى (الكوادس) التي تمخر عباب الصحراء. يحجز الزوار عربات الخيل للقيام بجولات سياحية في واحات النخيل الواسعة في الناحية الجنوبية من المدينة. وعادة ما تغدو الواحات هادئة أثناء فصل الشتاء بعد الانتهاء من حصاد التمر، حيث تظهر طرقها الرملية ساحرة في ظلال أشجار النخيل المتمايلة والتي يبلغ ارتفاعها ما يزيد عن خمسة عشر متراً. أما سيارات الكوادس عادة ما تذهب باتجاه الغرب نحو الهضاب الصحراوية والمرتفعات الصخرية المتميزة.
واستخدام عربات الخيول والكوادس لا يقتصر على السياح فقط، بل سكان المدينة أنفسهم يستعملون هذه الوسائل للتنقل في المدينة أثناء احتفالاتهم. خلال الفترة القصيرة التي قضيناها في توزر رأينا على الأقل ست قوافل من الجمال التي يركبها المدعوون إلى حفلات الزفاف في الصحراء وهم يرتدون أجمل الثياب التقليدية المزركشة ويغنون أعذب الألحان.
وعلى أطراف الصحراء الكبرى يكون الطقس معتدلا في الشتاء بالمقارنة مع درجات الحرارة المرتفعة في الصيف التي قد تصل إلى ما يزيد عن ٤٠ درجة مئوية. لذلك فإن الشتاء هو الفصل المناسب لتنظيم الاحتفالات والأعراس حيث يكون حصاد التمر قد انتهى وباع الفلاحون محاصيلهم ومنتجاتهم وملأوا جيوبهم بالنقود فينفقونها مجددا على الهدايا. ومن هنا فالشتاء هو الفصل الأنسب لتنظيم المهرجان الدولي للواحات في توزر.
منذ مئات السنين إلى الآن مازالت مدينة توزر مركز التقاء الثقافات ومركزا تجاريا وزراعيا مهما بدءاً من واحات نخيلها الكثيفة إلى مبانيها الصفراء الجميلة وتمورها اللذيذة ومنتجاتها المتنوعة والمتوفرة في كل مكان. وبسبب موقعها الاستراتيجي كمحطة تاريخية على طريق القوافل التجارية الغادية بين البحر الأبيض المتوسط والجزائر ومناطق أخرى بعيدة يعتمد سكانها بشكل أساسي على التجارة في معيشتهم. أما أهميتها التاريخية كنقطة التقاء الحضارات مثل الحضارة الأمازيغية والرومانية والبيزنطية والعربية والإسلامية جعلت منها مكانا يتميز بالتسامح والتعايش السلمي والمشاركة بين الثقافات المختلفة. وتشكل هذه القيم والمميزات التي يتمتع بها سكان توزر قاعدة بنيوية لمهرجان الواحات الدولي. والدورة الثالثة والأربعون من المهرجان التي أقيمت في شهر ديسمبر من ٢٤-٢٧ من عام ٢٠٢٢ أظهرت بشكل جلي كنوز توزر الزراعية والفنية والموسيقية.
وقد أخبرنا مدير المهرجان للفنون "إننا نحاول أن نروج للسياحة في مدينة توزر من خلال إظهار النواحي المتميزة في ثقافتنا ونأمل أن ننشط اقتصاد المنطقة من خلال ذلك، كما نريد أن نستقطب الزوار من جميع أنحاء تونس والعالم ليختبروا الحياة في الواحات."
حيث تم تقديم فنانين وموسيقيين وممثلين محليين. وتختلف عروض المهرجان في كل عام من أجل اجتذاب الزوار وإظهار نواحي مختلفة من تاريخ وتراث مدينة توزر. وفي هذا العام كان التركيز على التاريخ الاستيطاني لمدينة توزر الذي يعود إلى العصر الروماني القرطاجي في عام ١٤٦ قبل الميلاد عندما أطلق عليها اسم "توزروس"، وقد كانت جزءاً من أفريقية الرومانية حيث تم بناء الكنائس المسيحية فيها. ثم دخلها العرب عام ٦٩٣ للميلاد وقد كانت عبارة عن قلعة حدودية افريقية فأطلقوا عليها اسم بلاد الجريد أو بلاد سعف النخيل ووصفوها بأنها مجتمع واحة ومركز تجاري مزدهر. كذلك ركز المهرجان على التاريخ الأمازيغي والثقافة الأمازيغية في المغرب العربي التي ترتبط بنمط الحياة الرعوي البدوي وتقاليد ركوب الخيل والفروسية. لقد أشاد المهرجان بجميع النواحي التراثية والثقافية لمدينة توزر وأظهر بعمل فرجوي ملحمي التعاقب السلمي للحكام والقادمين إلى المدينة.
وبوجود شخصية المجذوب أو "روح توزر" تناولت العروض الفرجوية مواضيع شتى بدءاً من تجارة الصحراء واحتفالات الأعراس المبهجة ورقص السطمبالي والضرب على الطبول إلى الدخول الروماني ثم الديانة الكاثوليكية إضافة إلى عروض الفروسية المثيرة. وبالنسبة للكثير من الأسر في المنطقة يشكل هذا الاحتفال تقليداً سنوياً يتجمع فيه الزوار حيث يهتفون ويغنون ويرقصون مع العارضين. وبالطبع فالجميع أراد التقاط الصور مع الخيول المزينة وفرسانها.
وعلى مدى أيام المهرجان الأربعة شعرنا بترحيب المجتمع التوزري بنا وبأننا أصبحنا جزءاً منه وخاصة أننا شاركنا في العديد من الفعاليات الموسيقية التي قدمتها فرق جاءت من جميع أنحاء تونس ومن الجزائر وليبيا وإيران. وكان الناس ينضمون إلى كرنفالات الموسيقى المارة في الشوارع وغالبا ما تتحول هذه الكرنفالات إلى حلقات رقص وفرح وموسيقى. أما في أسواق الحرف التقليدية والصناعات اليدوية وجدنا الأثاث المصنوع من خشب شجر النخيل، والمنتجات المنسوجة بدقة وذوق مثل السجاد والثياب التقليدية، إضافة إلى الكثير من منتجات التمور المتنوعة مثل سكر التمر، قهوة التمر، حلويات التمر، وبالطبع الأنواع المتعددة من التمور الطازجة. لقد استمتعنا بالحفلات الموسيقية المتنوعة كل ليلة بدءاً بالموسيقى الصوفية وانتهاء بالموسيقى المعاصرة حتى أن آخر أيام المهرجان شاهدنا سهرة شبابية لموسيقى الراب والهيب هوب (hip hop). ففي كل ليلة كنا نتجمع في الملعب البلدي مع الجمهور والمعجبين والزوار حيث كنا نغني ونرقص ونلوح بأضواء الهواتف المحمولة على إيقاع الموسيقى.
وكباقي الزوار وأهالي المنطقة فقد استمتعنا باستخدام جميع أنواع المواصلات المتاحة مثل سيارات الدفع الرباعي للذهاب إلى الصحراء وعربات الخيول للتجول في واحات النخيل، كما مشينا كثيرا في شوارع المدينة الضيقة والملتوية إضافة إلى استخدام السيارات العادية.
بالرغم من أجواء الاحتفالات إلا أن السير في شوارع توزر يظهر بشكل واضح أن المدينة تعاني اقتصاديا. فمنذ ثورة الياسمين عام ٢٠١١ التي أطلقت الربيع العربي ثم مجيء جائحة الكورونا العالمية تلقى قطاع السياحة ضربة قوية، خاصة في مناطق مثل مدينة توزر التي يعتمد اقتصادها بشكل أساسي على السياحة الموسمية. وقد اضطرت العديد من الفنادق الكبيرة الحديثة إلى الإغلاق بشكل دائم بعد أن افتتحت في تسعينيات القرن الماضي وشكلت المنطقة السياحية الأساسية.
والتحديات التي تواجه قطاع المواصلات تزيد الوضع الاقتصادي سوءاً في المنطقة، فمثلا على الزوار القادمين من الشمال ومن العاصمة تونس أن يقودوا السيارات لمدة سبع ساعات وهذا بالضبط ما فعلناه. أما الطريقة الأخرى للوصول إلى تزور تكون عن طريق الطيران المحلي المباشر إلى مطار توزر وقد كان هذا المطار يستقبل الرحلات القادمة من باريس مباشرة أما الآن فيضطر السياح الأجانب أن يجدوا طرقاً أخرى للمجيء.
مع كل ذلك فإن أهالي مدينة توزر مفعمون بالأمل بعودة السياحة إلى أوجها السابق وبعودة المدينة لتكون مقصد العديد من السياح الأجانب، وهذا ما يسعى له منظمو المهرجان بشكل دائم من خلال تحسين فعاليات ونشاطات المهرجان. وقد أخبرنا السيد بوعبيد أن "منظمي المهرجان يستطيعون التعاون مع أصحاب الفنادق والمطاعم ووكالات السياحة والسفر ومنظمي النشاطات السياحية والشركاء الآخرين ليتمكنوا من استقطاب السياح إلى توزر وتمكين فرص عمل للجميع."
والآن فإن منظمي المهرجان في صدد التحضير لمهرجان عام ٢٠٢٣، ومن خلال الدعم الكبير الذي توفره مجموعة من المتطوعين الشباب يتبنى المنظمون نهجا جديدا ليقدموا نشاطات جديدة للسياح ويستقطبوا عددا أكبر من الزائرين.
وفي ظل مجيء إدارة جديدة ووجود العديد من المتطوعين الناشطين ورغبة الجميع بإظهار جمال وعراقة مدينة توزر فإننا نتطلع للعودة مرة أخرى إلى المهرجان الدولي للواحات في توزر راكبين سيارات الكوادس.
سلون كِلِر وربيكا فِنتون تعملان مع فريق USAID (الوكالة الأمريكية للمشاريع التنموية الدولية) كجزء من برنامج السياحة الثقافية والتراثية، وقد حضرتا المهرجان الدولي للواحات في توزر كممثلتين عن برنامج رعاية التراث الشعبي والإرث الثقافي في مؤسسة سمثسونيان. يهدف هذا المشروع المكث إلى بناء الكفاءات من خلال العمل مع ستة مهرجانات ثقافية تونسية.